فصل: تفسير الآيات (11- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (11- 13):

{وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13)}
قوله تعالى: {وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى} أي مات. يقال: ردي الرجل يردي ردي: إذا هلك. قال:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: {إِذا تَرَدَّى}: سقط في جهنم، ومنه المتردية. ويقال: ردي في البئر وتردى: إذا سقط في بئر، أو تهور من جبل. يقال: ما أدرى أين ردى؟ أي أين ذهب. وما: يحتمل أن تكون جحدا، أي ولا يغني عنه ماله شيئا، ويحتمل أن تكون استفهاما معناه التوبيخ، أي أي شيء يغني عنه إذا هلك ووقع في جهنم! أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة. فالهدى: بمعنى بيان الأحكام، قاله الزجاج. أي على الله البيان، بيان حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته، قاله قتادة.
وقال الفراء: من سلك الهدى فعلى الله سبيله، لقوله: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد.
وقيل: معناه إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال، كقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، و{بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83]. وكما قال: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] وهي تقي البرد، عن الفراء أيضا.
وقيل: أي إن علينا ثواب هداه الذي هديناه. {وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى} لَلْآخِرَةَ الجنة. وَالْأُولى الدنيا. وكذا روى عطاء عن ابن عباس. أي الدنيا والآخرة لله تعالى.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} [النساء: 134] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.

.تفسير الآيات (14- 16):

{فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)}
قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ} أي حذرتكم وخوفتكم. {ناراً تَلَظَّى} أي تلهب وتتوقد. وأصله تتلظى. وهي قراءة عبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، وطلحة بن مصرف. {لا يَصْلاها} أي لا يجد صلاها وهو حرها. {إِلَّا الْأَشْقَى} أي الشقي. {الَّذِي كَذَّبَ} بنبي الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَتَوَلَّى} أي أعرض عن الايمان.
وروى مكحول عن أبي هريرة قال: كل يدخل الجنة إلا من أباها. قال: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: الذي كذب وتولى.
وقال مالك: صلى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى} فلما بلغ {فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى} وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعداها من البكاء، فتركها وقرأ سورة أخرى. وقال: الفراء: {إِلَّا الْأَشْقَى} إلا من كان شقيا في علم الله جل ثناؤه.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى} أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قتادة: كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله.
وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة، فجعل تكذيبا، كما تقول: لقي فلان العدو فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال: وسمعت أبا ثروان يقول: إن بني نمير ليس لجدهم مكذوبة. يقول: إذا لقوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا. وكذلك قوله جل ثناؤه: {لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] يقول: هي حق. وسمعت سلم بن الحسن يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: هذه الآية التي من أجلها قال أهل الارجاء بالارجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر، لقوله جل ثناؤه: {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وليس الامر كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى. ولأهل النار منازل، فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، والله سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به.
وقال جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48]، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب، لم يكن في قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فائدة، وكان وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ كلاما لا معنى له. الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصا بالصلي، كأن النار لم تخلق إلا له وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف. وأبو بكر رضي الله عنه.

.تفسير الآيات (17- 18):

{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18)}
قوله تعالى: {سَيُجَنَّبُهَا} أي يكون بعيدا منها. {الْأَتْقَى} أي المتقي الخائف. قال ابن عباس: هو أبو بكر رضي الله عنه، يزحزح عن دخول النار. ثم وصف الأتقى فقال: {الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى} أي يطلب أن يكون عند الله زاكيا، ولا يطلب بذلك رياء ولا سمعة، بل يتصدق به مبتغيا به وجه الله تعالى.
وقال بعض أهل المعاني: أراد بقوله: {الْأَتْقَى} و{الْأَشْقَى} أي التقي والشقي، كقول طرفة:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي واحد ووحيد، وتوضع أفعل موضع فعيل، نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] بمعنى هين.

.تفسير الآيات (19- 21):

{وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)}
قوله تعالى: {وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى} أي ليس يتصدق ليجازي على نعمة، إنما يبتغي وجه ربه الأعلى، أي المتعالي {وَلَسَوْفَ يَرْضى} أي بالجزاء. فروى عطاء والضحاك عن ابن عباس قال: «عذب المشركون بلالا، وبلال يقول أحد أحد، فمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أحد- يعني الله تعالى- ينجيك ثم قال لأبي بكر: يا أبا بكر إن بلالا يعذب في الله فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلا من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالا؟ قال: نعم، فاشتراه فأعتقه». فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلا ليد كانت له عنده، فنزلت: {وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ} أي عند أبي بكر {مِنْ نِعْمَةٍ}، أي من يد ومنة، {تُجْزى} بل ابْتِغاءَ بما فعل {وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى}.
وقيل: اشترى أبو بكر من أمية وأبي بن خلف بلالا، ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله، فنزلت: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4].
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لابي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعنيه؟ فقال: نعم، أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لابي بكر، صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا، فحمله أبو بكر على الإسلام، على أن يكون له ماله، فأبى، فباعه أبو بكر به. فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ببلال هذا إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزلت: {وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ} أي لكن ابتغاء، فهو استثناء منقطع، فلذلك نصبت. كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا. ويجوز الرفع. وقرأ يحيى بن وثاب {إلا ابتغاء وجه ربه} بالرفع، على لغة من يقول: يجوز الرفع في المستثنى. وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبي خازم:
أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ** إلا الجآذر والظلمان تختلف

وقول القائل:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس

وفي التنزيل: {ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] وقد تقدم. {وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى} أي مرضاته وما يقرب منه. والْأَعْلى من نعت الرب الذي استحق صفات العلو. ويجوز أن يكون {ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} مفعولا له على المعنى، لان معنى الكلام: لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمته. {وَلَسَوْفَ يَرْضى} أي سوف يعطيه في الجنة ما يرضي، وذلك أنه يعطيه أضعاف ما أنفق.
وروى أبو حيان التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رحم الله أبا بكر! زوجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالا من ماله». ولما اشتراه أبو بكر قال له بلال: هل اشتريتني لعملك أو لعمل الله؟ قال: بل لعمل الله قال: فذرني وعمل الله، فأعتقه. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا رضي الله عنه.
وقال عطاء- وروى عن ابن عباس: إن السورة نزلت في أبي الدحداح، في النخلة التي اشتراها بحائط له، فيما ذكر الثعلبي عن عطاء.
وقال القشيري عن ابن عباس: بأربعين نخلة، ولم يسم الرجل. قال عطاء: كان لرجل من الأنصار نخلة، يسقط من بلحها في دار جار له، فيتناول صبيانه، فشكا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. «تبيعها بنخلة في الجنة؟ فأبى، فخرج فلقيه أبو الدحداح فقال: هل لك أن تبيعنيها بحسنى: حائط له. فقال: هي لك. فأتى أبو الدحداح إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يا رسول الله، اشترها مني بنخلة في الجنة. قال: نعم، والذي نفسي بيده فقال: هي لك يا رسول الله، فدعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جار الأنصاري، فقال: خذها فنزلت {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى} [الليل: 1]» إلى آخر السورة في بستان أبي الدحداح وصاحب النخلة. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى} يعني أبا الدحداح. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالثواب. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى}: يعني الجنة. {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى} يعني الأنصاري. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى} أي بالثواب. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى}، يعني جهنم. {وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى} أي مات. إلى قوله: {لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى} يعني بذلك الخزرجي، وكان منافقا، فمات على نفاقه. {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} يعني أبا الدحداح. {الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى} في ثمن تلك النخلة. {وما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى} يكافئه عليها، يعني أبا الدحداح. {وَلَسَوْفَ يَرْضى} إذا أدخله الله الجنة. والأكثر أن السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه.
وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير وغيرهم. وقد ذكرنا خبرا آخر لابي الدحداح في سورة البقرة، عند قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245]. والله تعالى أعلم.

.سورة الضحى:

سورة الضحى مكية باتفاق. وهي إحدى عشرة آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 3):

{وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)}
قوله تعالى: {وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} قد تقدم القول في الضُّحى، والمراد به النهار، لقوله: {وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} فقابله بالليل.
وفي سورة الأعراف: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98- 97] أي نهارا.
وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق: أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى، وبليلة المعراج.
وقيل: هي الساعة التي خر فيها السحرة سجدا. بيانه قوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59].
وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: فيه إضمار، مجازه ورب الضحى. وسَجى معناه: سكن، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة. يقال: ليلة ساجيه أي ساكنة. ويقال للعين إذا سكن طرفها: ساجيه. يقال: سجا الليل يسجو سجوا: إذا سكن. والبحر إذا سجا: سكن. قال الأعشى:
فما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ** وبحرك ساج ما يواري الدعامصا

وقال الراجز:
يا حبذا القمراء والليل الساج ** وطرق مثل ملاء النساج

وقال جرير:
ولقد رمينك يوم رحن بأعين ** ينظرن من خلل الستور سواجي

وقال الضحاك: سَجى غطى كل شي. قال الأصمعي: سجو الليل: تغطيته النهار، مثلما يسجى الرجل بالثوب.
وقال الحسن: غشى بظلامه، وقاله ابن عباس. وعنه: إذا ذهب. وعنه أيضا: إذا أظلم.
وقال سعيد بن جبير: أقبل، وروي عن قتادة أيضا.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: سَجى استوى. والقول الأول أشهر في اللغة: سَجى سكن، أي سكن الناس فيه. كما يقال: نهار صائم، وليل قائم.
وقيل: سكونه استقرار ظلامه واستواؤه. ويقال: {وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم. ويقال: {الضُّحى} يعني نور الجنة إذا تنور. {اللَّيْلِ إِذا سَجى} يعني ظلمة الليل إذا أظلم. ويقال: {وَالضُّحى} يعني النور الذي في قلوب العارفين كهيئة النهار. {وَاللَّيْلِ إِذا سَجى} يعني السواد الذي في قلوب الكافرين كهيئة الليل، فأقسم الله عز وجل بهذه الأشياء. {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ} هذا جواب القسم. وكان جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال المشركون: قلاه الله وودعه، فنزلت الآية.
وقال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما.
وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما.
وقيل: خمسة وعشرين يوما.
وقال مقاتل: أربعين يوما. فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتابع عليه، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء.
وفي البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله عز وجل: {وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}.
وفي الترمذي عن جندب البجلي قال: كنت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غار فدميت إصبعه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت!» قال: وأبطأ عليه جبريل فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}. هذا حديث حسن صحيح. لم يذكر الترمذي: «فلم يقم ليلتين أو ثلاثا» أسقطه الترمذي. وذكره البخاري، وهو أصح ما قيل في ذلك. والله أعلم. وقد ذكره الثعلبي أيضا عن جندب بن سفيان البجلي، قال: رمي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إصبعه بحجر، فدميت، فقال: «هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت»فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم الليل. فقالت له أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت {وَالضُّحى}.
وروى عن أبي عمران الجوني، قال: أبطأ جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى شق عليه، فجاء وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، فنكت بين كتفيه، وأنزل عليه: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}. وقالت خولة- وكانت تخدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير فمات، فمكث نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياما لا ينزل عليه الوحي. فقال: «يا خولة، ما حدث في بيتي؟ ما لجبريل لا يأتيني قالت خولة فقلت: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي الله ترعد لحياه- وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة- فقال: يا خولة دثريني» فأنزل الله هذه السورة. ولما نزل جبريل سأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التأخر فقال: «أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة».
وقيل: لما سألته اليهود عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف قال: «سأخبركم غدا». ولم يقل إن شاء الله. فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه بقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23] فأخبره بما سئل عنه.
وفي هذه القصة نزلت: {ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى}.
وقيل: إن المسلمين قالوا: يا رسول الله، مالك لا ينزل عليك الوحي؟ فقال: «وكيف ينزل علي وأنتم لا تنقون رواجبكم- وفي رواية براجمكم- ولا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم». فنزل جبريل بهذه السورة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما جئت حتى اشتقت إليك» فقال جبريل: «أنا كنت أشد إليك شوقا، ولكني عبد مأمور» ثم أنزل عليه: {وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]. وَدَّعَكَ بالتشديد: قراءة العامة، من التوديع، وذلك كتوديع المفارق.
وروى عن ابن عباس وابن الزبير أنهما قرأاه: {ودعك} بالتخفيف، ومعناه: تركك. قال:
وثم ودعنا آل عمرو وعامر ** فرائس أطراف المثقفة السمر

واستعماله قليل. يقال: هو يدع كذا، أي يتركه. قال المبرد محمد بن يزيد: لا يكادون يقولون ودع ولا وذر، لضعف الواو إذا قدمت، واستغنوا عنها بترك. قوله تعالى: {وَما قَلى} أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. وترك الكاف، لأنه رأس آية. والقلى: البغض، فإن فتحت القاف مددت، تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء. كما تقول: قريت الضيف أقرئه قرى وقراء. ويقلاه: لغة طئ. وأنشد ثعلب:
أيام أم الغمر لا نقلاها

أي لا نبغضها. ونقلي أي نبغض. وقال:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ** لدينا ولا مقلية إن تقلت

وقال امرؤ القيس:
ولست بمقلي الخلال ولا قال وتأويل الآية: ما ودعك ربك وما قلاك. فترك الكاف لأنه رأس آية، كما قال عز وجل: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ} [الأحزاب: 35] أي والذاكرات الله.